13-مارس-2016

طفل سوري يحمل مسدس لعب في حمص 2016 (AP)

"السّوري ذئب للسوري"، لم تصدمني الجملة التي افتتحتُ بها يومي الفيسبوكي، على الرغم من وقعها وواقعها السوداويين. تلك العبارة لم تعد حكرًا على السياسيين والمثقفين، بل تجاوزت عوالم الخاصة لتدخل إلى عوالم العامة، وتصبح عادة سوريّة بامتياز. 

لماذا يعتبر نجاح الآخر سقوطًا لنا؟ لماذا تهان الكرامة بكل بساطة لمجرد أن أحدًا ما لا يروق أمزجتنا؟ 

ظاهرة التشهير والتنكيل السوري السوري التي انتشرت واقعيًا في الشتات بما يغطي كل جغرافيات اللجوء الإنساني، وتطاول افتراضيًا كل الجدران الفيسبوكية في أصقاع عوالم الإنترنت المشرعة الأبواب؛ باتت تستحق الكثير من الأبحاث والدراسات.

اقرأ/ي أيضًا: منجل إسرائيل في حصاد الثورات المضادة

الشتم هنا بعيد عن شقي السياسة: موالاة ومعارضة، فإذا دخلنا عالم الثقافة فالشتائم والمهانة والازدراء وتبخيس الآخر تكاد تكون علامة سورية بامتياز. حتى الموت لم يخل من هذا التنكيل، لهذا نجد أننا نهلل لبعض الحالات رغم مأساويتها، عندما نرى السوريين متفقين على شهيد مثلًا، فلا هذا يدعوه فطيسة، ولا ذاك يدعوه جيفة، هذا ما حدث مع ناجي الجرف وبشير العاني.

لماذا يعتبر نجاح الآخر سقوطًا لنا؟ لماذا تهان الكرامة بكل بساطة لمجرد أن أحدًا ما لا يروق أمزجتنا؟ أليس الأحرى بنا أن نتناول منتجنا الثقافي بقليل من المسؤولية؟ نتجادل، نتحاور، ننتقد، ننقد، ونعلن انتقاداتنا، لكن أن نضع الآخر في محكمة جنايات ونكيل له المسبات الشخصية، بعيدًا عن عمله الأدبي، ألا يعتبر هذا إعلانًا عن موت الإنسان فينا؟ 

ما الذي يمكن التعليق به على هذا التذاؤب الثقافي؟ فكرت بحالات الضباع ربما تكون أنسب هنا، لكن الضباع ذاتها لا تأكل بعضها. ما الذي حدث حتى بتنا نتلذذ كل هذا التلذذ بالتنكيل الذي نهيله على أبناء جلدتنا؟ 

كتبت ضباعًا وتراجعت. ليس تراجعي من باب خطأ في تحديد مدى خطورة أحد الحيوانين على أبناء جنسه، بقدر ما هو تحديد للاختلاف البيولوجي بين كلا الحيوانين المذكورين والإنسان. عندما يتعارك ذئبان، لا يقتتلان حد الموت. فما إن يشعر القوي بقوته تجاه الأضعف منه، حتى يكتفي بتلقين الآخر درسًا فقط. والضباع كذلك الأمر. بل لنقل كل الحيوانات المفترسة التي تملك أدوات قوتها، لا تتخلص من حياة أبناء جنسها هكذا بسهولة. 

لكن كلما نزلنا درجة بمرتبة القوة، ازداد التوحش تجاه أبناء الجنس الواحد. فما أن نصل إلى آخر السلم مع الحمامة الوديعة رمز السلام، حتى نشاهد أغرب وأشرس عراك بين أبناء الجنس الواحد. فعراك الحمام عراك موت. تظل إحداهما تنقر الأخرى حتى تزهق حياتها بأبشع وأقذر الطرق وأكثرها دموية. يأتي الموت بطيئًا جدًا هنا. إنه المنقار رمز الضعف، بينما تبقى المخالب والأنياب الواثقة تمامًا من قدرتها التمزيقية، أهون باستعمال أدواتها التدميرية مع أبناء جنسها.

مع الحمام الوديع، رمز السلام، نشاهد أغرب وأشرس عراك بين أبناء الجنس الواحد

هل يمكن أن يكون إدراك الضعف وراء كل تلك المجازر التشهيرية؟ استرجعت هذه المقارنة من كتاب "حيونة الإنسان" لممدوح عدوان. هل السبب وراء اختراع الرصاص المعنوي هو إدراكنا لضعفنا وهشاشتنا أمام الآخر؟ ذاك الرصاص الذي بتنا سادة العالم بقدرة استخدامه دون أن يرف لنا جفن.

اقرأ/ي أيضًا: من يفكر للدواعش؟!

القتل البشري بالتشهير والتنكيل ورمي التهم على الآخر، افتراضيًا وواقعيًا، موت بطيء، بموت بمنقار أكثر شراسة من أنياب فتاكة تقتل بالضربة القاضية. هل اعتدنا هذه الحرب التشهيرية إلى هذا الحد؟ وكم هي الأشياء التي ماتت فينا حتى وصلنا إلى هذا الاعتياد؟ 

هذا الحوار من رواية "أعدائي" لممدوح عدوان أيضًا: "ذات يوم شرحوا لنا في المدرسة شيئًا عن التعود. حين نشم رائحة تضايقنا فإن جملتنا العصبية كلها تتنبه وتعبر عن ضيقها، بعد حين من البقاء مع الرائحة يخف الضيق. أتعرف معنى ذلك؟ معناه أن هناك شعيرات حساسة في مجرى الشم قد ماتت فلم تعد تتحسس. ومن ثم لم تعد تنبه الجملة العصبية. والأمر ذاته في السمع، حين تمر في سوق النحاسين فإن الضجة تثير أعصابك. لو أقمت هناك لتعودت مثلما يتعود المقيمون والنحاسون أنفسهم. السبب نفسه: الشعيرات الحساسة والأعصاب الحساسة في الأذن قد ماتت. نحن لا نتعود يا أبي إلا إذا مات فينا شيء".

كم من الأشياء ماتت فينا حتى بتنا نهيل كل هذا النتن على إنسانيتنا دون حتى أن نشم تلك الرائحة العفنة؟ هل هو وباء جديد قادم لابتلاع ما بقي فينا من إنسان؟

اقرأ/ي أيضًا: 

ما بعد عيد المرأة

أي مصير للسوريين العالقين في اليونان؟!