11-نوفمبر-2015

عراقية في بغداد ترفع شعارات ضد فساد سياسيين عراقيين (Getty)

هل كان ماركس يعرف أن التاريخ في العراق، على العكس مما رأى، يظلّ يعيد نفسه على شكل مأساة؟ قصّة التاريخ العراقي ترتبط بشكّل أساسي بالسياسيين العراقيين الذي تناوبوا على حكم البلاد وظلّوا يزيدون أهلها جوعًا وتخلّفًا. يلصق السياسي العراقي نفسه بالتاريخ، ينبشه وينكشه ويحرِّفه من أجل إثبات أمر واحد فحسب: إنه ينتمي إلى سلالة نبلاء لا يُتاح للعامّة انتقادها، أو اتهامه شخصيًّا بالسرقة بسبب غناها.

تبدّل كل شيء في العراق إلا العودة إلى استجلاب السلالات التي غالبًا ما تكون إقطاعية جوّعت الفلاحين

لقد كان وزير النقل العراقي، إبان فترة معارضته لحكم البعث، يُعرَف باسم بيان جبر، وبعد أن أصبحت أصوات العشيرة رافعة في الانتخابات المحليّة والبرلمانيّة، غيّر اسمه إلى باقر جبر وأردفه بــ"الزبيدي"، وهو اسم عشيرة عراقيّة عريقة. ولكن هذا لم يكن كافيًا بالنسبة للوزير، فأخذ في كل حوار تلفزيوني يتحدّث عن غنى عائلته وتجارتها المعروفة في عقود غابرة.

وعلى النهج ذاته سار أغلب ساسة "العراق الجديد". كلّ منهم يفتش تاريخ أجداده ويتحدّث عن "أملاكهم" التي "صادرتها" ثورة عبد الكريم قاسم على الملكيّة عام 1958، وما لحق بها من حيف في وقت لاحق في فترة حكم النظام الدكتاتوري للعراق، وخاصّة بعد تسلّم صدّام حسين للسلطة وحتّى سقوطه. ولم يكن صدام حسين ذاته شاذًا عن هذه القاعدة، فهو كان مهووسًا بربط نفسه بالتاريخ أيضًا، إذ فصّل شجرة تربط نسبه بصلاح الدين الأيوبي، ولم يكفهِ هذا فذهب أبعد حين فصّل شجرة أخرى تثبّت أنّه من سلالة الحسين بن علي بن أبي طالب، وكان هذا حينذاك مثارًا للسخرية والاستهجان، زادتنا -نحن القابعين بين كماشتيه- بالإصرار على الاستمرار بالحياة.

تبدّل كل شيء في العراق إلا العودة إلى استجلاب السلالات التي غالبًا ما تكون إقطاعية، وجوّعت الفلاحين واتخذت منهم عبيدًا تتلاعب بمصائرهم ومصائر عائلاتهم مقابل غلة تكفيهم سد الرمق من الموسم إلى الموسم.

في الواقع، هذه السلالات، التي يظل السياسيون يستعينون بها، لم تمثّل فقط عكّازًا للحصول على الأصوات في الانتخابات والوصول إلى المناصب، وإنما مثّلت أيضًا سلطة أخرى على عامّة الناس جعلتهم يفكرون ألف مرّة قبل البحث عن خلفيّات المسؤول الماليّة، وغناه المفاجيء.

موت السياسي العراقي أحمد الجلبي فتح الباب مشرّعًا أمام عودة الإقطاعية، خاصّة بعد دفنه في صحن مرقد الإمام موسى الكاظم في كرخ بغداد، وهو مزار مهمّ. أثار دفنه في هذا المكان موجة سخط من قبل الشيعة، إلا أن خطابين صدّرا لهما أسكتت غضبتهم: الأول، هو موافقة المرجعية العليا في النجف بدفن الجلبي في صحن الإمام الكاظم، وهو الأمر الذي لا يجب لـ"العوام" نقاشه بعد ذلك، لأنّه سيمثل تشكيكًا برأي المرجعيّة. الثاني، وهو الخطاب الأبشع الذي يتنكّر للعدالة الاجتماعية ويُعيد العراق قرنًا إلى زمن العبودية، وهو الخطاب الذي جعل العراقيين يلوكونه دون أي تفسير: الأرض التي دُفن عليها الجلبي كانت تعود لوالده وجدّه وقد تبرعا بها من أجل توسعة صحن الإمام الكاظم. 

لم يتح للعراقيين سؤال أنفسهم كيف حصلت عائلة الجلبي على هذه الأرض، وممن اشتروها ليهبوها أصلًا؟ وهل بعد عقود طويلة من تبدل شكل الدولة من ملكية إلى جمهوريات متفاوتة في مستوى القمع، وبعد أن صار العراق يتغنّى بـ"المسيرة الديمقراطية" يجوز استرداد المفاهيم القبيحة لاستعمالها؟ لكن مهلًا، ألم يجرِ تشبيه الجلبي بـ"الباشا" نوري السعيد الذي كان آخر رئيس وزراء في العهد الملكي!

اقرأ/ي أيضًا:

السياسة العراقية.. الأرنب والغزال

حظيرة "الكناغر" العراقية