29-أغسطس-2016

هذه محاولة للشروع في جلد الذات، والبحث عن فضيحة شخصيّة، والتحليل النفسي لنفسي. ولأن الكتابة نوع من أنواع العلاج الرخيصة، التي تجلب الشفاء السريع، وتقي صاحبها شرّ نفسه، فلا بدّ من محاكمة علنيّة قبل أن تفلت القدم في طريق "اللي يروح ميرجعش".

لا أطيق اللفّ في "المولات"، وبين الدكاكين لاصطياد قطعة ملابس جديدة، فالشراء «أونلاين» ملجأ لأمثالي من أصحاب الوقت الضائع في لا شيء، الذين يقولون بعد أن يهرب منهم: "لا وقت اليوم. أحاول غدًا". و"غدًا" لا يأتي، ولن يأتي أبدًا.

حين تصل الملابس على موتوسيكل شركة شحن لا تسمح لك بتغيير أو تبديل أي بنطلون أو قميص أو حذاء كبير عليك. فقضيت فترة من حياتي أمشي داخل الملابس أولًا. لأنها كبيرة، وضخمة، وحسابها مدفوع مقدمًا.

سياسة الاستبدال تركع لعيوب التصنيع فقط، وإذا لجأت لسياسة الاسترجاع فاستسلم لخسارة نصف الثمن. وعوضك على الله!

منّ الله عليَّ -المواطن الفقير مهدي مبارك- بخصلة نسائيّة وهي الخروج من الاكتئاب بالأكل (والحل كرسي مفتوح على باب الثلاجة)، وشراء الملابس (ولا تزال مركونة في الدولاب توحّد ربها). والقصة تستحق أن تروى.

اقرأ/ أيضًا: كديناصورٍ شارفَ على الانقراض

استسلمت لحالة غضب مزمن خرجت منها بشراء 15 قطعة شتويّة ما بين جاكيت و«سوت شيرت» وتيشيرت وبنطلون. المفاجأة أن كلها سوداء!

الأسود ملك الألوان، الأسود يليق بك، يمشي مع أي لون غيره، يحدّد اللوحة ويبيّن جمالها، ويا سلام لو كسرته بفانلة بيضاء برقبة، أو حذاء أبيض، و«يا حلاوتك يا جمالك خليت للحلوين ايه».

وضعت الحكاية على مكتب صديق درس علم النفس، وهرمنا من حكاياته عن فرويد وجان بياجيه والدكتور أحمد عكاشة، فرد بسؤال وجيه: وأين المشكلة؟ أكيد اشتريت كم طقم فاجر يا معلّم و«هتولعها». ثم مال برأسه للوراء، وارتدى نظارة العمق الكبيرة (موضة المرحلة منها لله!)، وقال: "حزنا على شيء ما. أنت حزين من جواك يا مهدي".

والحقيقة أنني عدمي لدرجة لا تسمح للحزن بالتسرّب تحت جلدي الخشن، فلا شيء له قيمة لتمنحه من طاقتك النفسيّة ربع ساعة "زعل" مخصومة من وقت الأفلام والكتب والكتابة والسفر، وسحب بكرة "الماوس" لمتابعة الـ"نيوز فيد" الذي يتجدّد كل لحظة على فيسبوك ويعمل كمضخة اكتئاب مجاني تؤكد لك أن "اللي يشوف بلاوي الناس تهون عليه بلاويه". فلا تحزن، لأن الحياة صغيرة والحزن "مطاط ومكّار ويكبر فجأة"، وانزل اشرب لك حجرين.

المشكلة الآن أنّي خلال مرحلة الشراء لم ألاحظ أنّ القطع كلها، كلها بلا استثناء، سوداء. المصيبة، حين لاحظت أنّ كل أزيائي سوداء، أسود مقلّم وأسود باهت، وأسود محروق، وأسود فاحم، وأسود بخط ملوّن، ليس لأن تشكيلة الدرجات السوداء (لابقة عليك) كما يقول الشوام، إنما لأنه الاختيار الأول والوحيد. الذي ما إن دخلت محلًا (حقيقيًا أو افتراضيًا) حتى ذهبت إليه، وخطفته وخرجت.

كل المحاولات لاصطياد لون آخر فشلت. والأفجع الفشل في الخروج من أسر الأسود السادة. بلا نقوش، ولا ألوان تكسره، ولا خط يحدّده. أسود سادة "عشان الأحداث" رغم أنني أحب الأحمر، وأحترم الأزرق، وأقدّر "البينك" ولا أعتبره "لون حريمي"، والرمادي يشبهني، ويشبه الحياة: غامضة وخدّاعة ولا وجود فيها للأبيض والأسود. فلا شيء صحيح ولا خطأ. كل المواقف والآراء وردود الفعل رماديّة: "حلو، ولكن. سيئ، ولكن". وكل ما بينهما "بين البينين"!

 

اقرأ/ أيضًا:

حفلة التفاهة

في قريتي... حلم يجاور الشمس

دلالات: