09-سبتمبر-2016

كان خبر هروب أطفال المنيا، المحكوم عليهم بالسجن في قضية ازدراء الأديان، كاشفًا لخطورة ما آلت إليه الأمور في مصر نتيجة القمع المتزايد والمخيف من قبل محتكري الأديان والأخلاق والفضيلة سواء كانوا أفرادا أو مؤسسات أو حتى الدولة نفسها.

فور وصول الأطفال الأربعة إلى المطار بسويسرا، نشر موقع "مورنينغ ستار نيوز" الأمريكي صورة لهم وأشار إلى حصولهم نحو قبل أسبوعين على تأشيرة لجوء إلى سويسرا. الطريقة التي تداول بها رواد مواقع التواصل الاجتماعي صورة الأطفال بعد وصولهم إلى "مكانهم الآمن" كشفت عن حالة من الرفض المتزايد لدى كثيرين لما تشهده الساحة المصرية من انتهاك -ممنهج وعشوائي على السواء- لإنسانية المصري، وعكست إحساسًا عميقًا بداخل عدد كبير من الشباب المصري باليأس من استمرار الوجود على أرض هذا البلد وصعوبة الإيمان بوجود كوة أمل أو بارقة لمستقبل واعد قد يلوح في الأفق القريب لمصر. البعض هنأهم على وصولهم بعد رحلة شاقة من المطاردة القضائية والنبذ والتهديد والخوف الاجتماعي، معتبرًا أنهم بذلك "نفذوا بجلودهم".

بدت الدولة ومؤسساتها كمن قطع رأسه وسار تيهًا في مجاهل مظلمة لا يعرف طريقًا للعودة. ولكن الأطفال فعلوها وهربوا من هذا الكابوس

اقرأ/ي أيضًا: تمثال لتمجيد العسكرية المصرية..متهم بالتحرش الجنسي

هرب الأطفال بعد صدور حكم بسجنهم 5 سنوات بسبب فيديو مدته 28 ثانية. هرب الأطفال لأن الدولة انحازت إلى جانب داعش وتلحفت بعباءة السلفيين وقبضت عليهم بتهمة ازدراء الإسلام. هرب الأطفال لأنهم سخروا من داعش في فيديو صوره أحد مدرسيهم ثم وجده أحدهم على هاتفه، في الوقت الذي خصصت قناة تلفزيونية خاصة برنامجًا كاملاً للسخرية من داعش وأساليبها عُرض في شهر رمضان الماضي في وقت الإفطار. هرب الأطفال لأن الفيديو الذي صوروه انتشر في قريتهم بالصعيد واستغل السلفيون الموقف وأشعلوا فتنة ظالمة حرقت معها ممتلكات الأقباط ومحاولة فاشلة لإحراق كنيسة القرية. هرب الأطفال لأنهم رفضوا الخضوع لقانون ظالم ومتخلف قادم من عصور ظلام يصبح فيها تعبير سخيف مثل "ازدراء الأديان" مفتاحًا للحبس والسجن والتشريد وربما القتل.

بدت الدولة ومؤسساتها كمن قطع رأسه وسار تيهًا في مجاهل مظلمة لا يعرف طريقًا للعودة. ولكن الأطفال فعلوها وهربوا من هذا الكابوس، ذهبوا إلى تركيا ومن هناك قدّموا على تأشيرة للجوء الديني في سويسرا، ذهبوا إلى هذا البلد الأوروبي البارد وتركوا خلفهم مناخًا دافئًا يرعى فيه التطرف والاضطهاد والتخلف وسيف السجن المسلّط على كل من تسول له نفسه الاقتراب مما يُفترض أنه الدين الرسمي للدولة. القانون الذي صدر أساسًا لحماية المسيحيين وتقليل محاولات النيل من عقيدتهم صار سيفًا جاهزًا للإطاحة برقبة الجميع إذا حاولوا الاقتراب من المذاهب الإبراهيمية، وفقًا لنص المادة كما وردت في الدستور المصري الجديد. ولكن حتى ذلك لا يتم تطبيقه إذا ما أخذنا في الاعتبار القنوات الدينية وخطباء المساجد وشيوخ السلفية والحرب القذرة التي يشنها الغلاة من رجال الدين ضد كل من يخالف مذهبهم أو طائفتهم.

ازدراء يومي ومتكرر تحت نظر وأسماع الدولة ومواطنيها ولا يهتم أحد بالتحقيق فيها أو المطالبة بتفعيل شروط المواطنة والموائمة بين أفراد الشعب الواحد في إطار مدني علماني يتم بموجبه احترام كل المواطنين دون النظر لدياناتهم أو مذاهبهم أو طوائفهم. لا شيء من هذا يحدث، وغالبا لن يحدث لأن الحل الأبسط والأسهل لدولة لا تعي بعد هويتها هو التحالف -أو التواطؤ المكشوف- مع الجموع الغفيرة من حاميي الدين وحاملي توكيل الله في الأرض.

يقول ألبرت شفيق أحد الأطفال المسيحيين الأربعة: "كان من الصعب علينا أن نترك وراءنا حياتنا وأسرنا وعوائلنا لنعيش في دولة أخرى، ولكن كان من الصعب دفع فاتورة جريمة لم نرتكبها، حُكم فيها علينا ظلمًا فقط لأننا صورنا مقطع فيديو نداعب فيه بعضنا وننقد داعش أثناء رحلة مدرسية. نتمنى أن نستطيع إيجاد الحياة هنا في سويسرا ونجد ما لم نجده في بلدنا، مصر". انتهى الكلام ولكن الفيلم الكابوسي الذي تعيشه مصر لم ينته بعد.

اقرأ/ي أيضًا:
أزمة لبن الأطفال بمصر: الوجه القبيح لبزنس الجيش!
الموازنة المصرية.. عدالة غائبة ووعود بعيدة