22-سبتمبر-2016

ضباط أردنيون مع ضباط من الهاغناه يتفقون على مسار خط الهدنة 1948(Getty)

بالاتفاقيات الثنائية مع إسرائيل تارة، وبتحديد القدرات العربية وبعثرتها في حروب جانبية ومذهبية بغيضة تارة أخرى، تمت حماية إسرائيل في العقود التالية لحرب 1973. طبعًا لا يمكن للغرب أن يراهن إلى الأبد على اشتعال التوترات الداخلية في المنطقة، إضافة إلى احتمال استدارة أحد هذه التوترات ليتوجه إلى إسرائيل نفسها! أما الأمان الحقيقي لإسرائيل فهو عدم وجود حلف لدول عربية قوية. وما يضمن ذلك هو عدم السماح بوجود دول عربية قوية اقتصاديًا وحرة سياسيًا ومقتدرة عسكريًا. وهذا هو مجال عمل الولايات المتحدة وإسرائيل في الوقت الراهن: إدامة العجز العربي.

الأصول الخليجية بالخارج تعادل الناتج المحلي للبرازيل والهند معًا. في الولايات المتحدة وحدها يستثمر الخليجيون 500 مليار دولار وفي أوروبا يستثمرون 200 مليار دولار

وبمقارنة هذا السعي الحالي مع ذلك الذي قام به الغرب أثناء التحضير لإنشاء دولة إسرائيل سنرى أن التاريخ لا يعيد نفسه وحسب وإنما هو مستمر على المنوال ذاته، غير أن ميكانيزم هذه الاستمرارية يتطلّب تبديلًا في الأساليب بين فترة وأخرى. فبينما كانت هذه الأساليب تتسم آنذاك بالعنف والإخضاع بواسطة القوة العسكرية صارت اليوم تتألف من قيود وتبعيات مالية وأخرى سياسية، وصار التهديد بالعقوبات الاقتصادية والحرمان من المساعدات والصفقات له قوة الإملاء السياسي. في السابق كان رفع الدعم العسكري البريطاني عن بعض الأنظمة العربية يعني أن يصبح ظهرها إلى الحائط؛ اليوم يعني رفع الدعم المالي الأمريكي عن بعض الأنظمة العربية تعريضها للانهيار الأكيد. والقصد في كلتا الحالتين هو إبقاء الدول العربية عاجزة من جميع النواحي عن تحمل تحدٍ كبير مثل الحرب مع إسرائيل المدعومة مسبقًا في أي حرب تخوضها.

في أحد مؤتمرات القمة العربية (وهي تسمية ساخرة للغاية في رأيي) برّر حاكم عربي زائل أمام كاميرات التلفزيون خنوعه وزملائه الحكام العرب بأنه "هناك دول عربية تعيش على المساعدات الخارجية" في إقرار صريح بأن سياسة المساعدات والعلاقات الاقتصادية التي اتبعتها أمريكا مع بعض الدول العربية لشراء ولائها أدت غرضها على أكمل وجه. لكن المرء يتساءل: هل كانت مصر جائعة قبل عهد الاستثمارات والمساعدات الأمريكية؟ هل الاعتماد على المساعدات حالة تطلّبها تطور الاقتصاد في مصر؟ بمعنى هل الاقتصاد هو الذي فرض على الدولة تقبّل المساعدات أم أن الدولة هي التي فرضته على الاقتصاد؟ ما حصل أنه لكي يتم تقييد القرار المصري بقيد الحاجة الدائمة للعلاقات الطيبة مع أمريكا توجّب أن يكون الاقتصاد المصري ضعيفًا أو مهددًا بالضعف.

اقرأ/ي أيضًا: 40 معتقلا.. الهجمة الإسرائيلية على "التجمع" تتواصل

إذا كان ذلك الحاكم العربي روّج في زمن ما قبل يناير 2011 حكاية أن مصر -وهي المقصودة في كلامه- "عائشة على المساعدات"، فربما يجب الانتباه إلى أن مجمل قيمة هذه المساعدات، كما تخبرنا الإحصاءات والتقارير الرسمية، لا يتعدى نصف العائد السنوي لقناة السويس. وعدا القناة، فلدى مصر كما هو معروف مصادر أخرى غنية للدخل والتنمية ولكن هذا كله يُنهب أولاً بأول من قبل فئة تستحوذ على المال والسلطة معًا وتحرص على إدامة حالة العجز المطلوبة أمريكيًا وإسرائيليًا. هذه الدول العربية "العائشة على المساعدات" لديها موارد لا تكفي فقط لمعيشة مواطنيها وإنما حتى للشروع بعملية تنمية حقيقية بشرط القضاء على الفساد والنهب الممنهج للثروات وتحقيق الشفافية في الحياة السياسية. والآن تكفي نظرة سريعة على هذه الدول لنتبين حالها الذي لم يتغير بعد انتفاضات الربيع العربي مع عودة الوجوه القديمة للفساد السياسي بأسماء جديدة.

من ناحية أخرى ثمة دول عربية تعاني من التخمة المالية، لكنها ترسل أموالها بعيدًا، إلى أمريكا وأوروبا ليستثمروها هناك بدلاً من استثمارها في الدول العربية المتعطشة للاستثمار. الأصول الخليجية بالخارج تعادل الناتج المحلي للبرازيل والهند معًا. في الولايات المتحدة وحدها يستثمر الخليجيون 500 مليار دولار وفي أوروبا يستثمرون 200 مليار دولار. أما في المنطقة العربية فالاستثمارات القليلة لرأس المال الخليجي لا تساهم في أي حركية إنتاجية وإنما تتوجه غريزيًا إلى المجال السياحي والترفيهي.

أي متأمل لأحوال المنطقة العربية لا بد أن يتساءل عن سر "المصادفة" التي جعلت جميع البلدان العربية القريبة من إسرائيل، أو ذات التاريخ السياسي النشط في المنطقة، تخلو من أي تنمية حقيقية أو معدل نمو يعتد به، أو اقتصاد تنافسي في عالم اليوم، أو تقدم معرفي أو ظاهرة إنتاجية تبعث على الفخر. أي متأمل للبلدان العربية لا بد أن يستوقفه الإصرار الحكومي على بقاء حالة التخلف المعرفي، بل الجهل العام، كما هي بل وتكريسها و"رعايتها" بشتى الوسائل رغم المآسي التي تسببت فيها حتى اليوم.

الطريق الواضح للتقدم، القائم على خطة تنمية شاملة تنتجها حياة سياسية صحية وتنفذها حكومة رشيدة وتضمنها شفافية مالية وقضائية، يجري التهرب منه بشتى الذرائع وبشتى الوسائل، ويُسجَن الداعون إليه. الطريق الواضح للاستقلال الاقتصادي، القائم على الأولويات الوطنية والاجتماعية والإنسانية غير القابلة للتصرف، يُذبَح فداء لشروط البنك الدولي والشركات متعددة الجنسيات عابرة القارات. لا وجود لـ"دول غنية" في المنطقة وكل ما يوجد حكام أغنياء لدول فقيرة، إن لم نقل لصوصًا فيما لو طُبّقت عليهم أحكام القضاء حتى في قوانينهم المحلية، أو كما عبّر مهدي الجواهري منذ زمن بعيد: ساكنُ القصر لو إلى ذِمة الحقِ/ احتكمنا لكانَ يسكُنُ سِجنًا!

الخلاصة، أن ما يسمى بالعجز العربي ليس حالة ذاتية ومنعزلة، ولا هو مصادفة، إنما هو بيئة سياسية اقتصادية مصنوعة دوليًا، وبإحكام، لحساب المشروع الصهيوني وبتنفيذ الأنظمة العربية القائمة، وخلفائها، مقابل خدمات متنوعة: خدمات مالية واقتصادية لأنظمة الدول "الفقيرة"، وخدمات سياسية (حماية، ضمان) لأنظمة الدول "الغنية". هكذا كان الحال عشية تأسيس دولة إسرائيل وهكذا سيبقى الحال حتى اكتمال المشروع الصهيوني: إكمال التوسع الاستيطاني وتصفية القضية الفلسطينية تمامًا.

اقرأ/ي أيضًا:
أسبوع لمناهضة الاستعمار الإسرائيلي يغزو العالم
مقاومة المرأة الفلسطينية في زمن الليبرالية الجديدة