16-نوفمبر-2015

مارتن لوثر في زي مسلم لــ إسلام أحمد

منذ نشأة المدارس القومية في العالم العربي، عقب انهيار الإمبراطورية العثمانية، وتناميها لاحقًا كقاعدة للتحرر من الاستعمار، ونحن نتهرب من سؤال مباشر: ماذا نفعل بالإسلام وبهذه القرون التي رسخت على كاهل تاريخ المنطقة؟

كان عصر السادات بداية حقبة "العودة إلى السلف"، إذ يعتبر أحد أهم مهندسي عودة التشدد الإسلامي

وتهربًا من الإجابة المباشرة عن السؤال بخطوات عملية، وجد القوميون العرب –أغلبهم مسيحيون بالمناسبة– في العروبة طريقة لتحييد الدين واتخاذ قالب قومي جامع لكافة أطياف المجتمع. هذه الخطوة كانت إلى حد ما عملية هروبًا إلى الأمام، لكنها اصطدمت بشكل كبير بالتيار الإسلامي ممثلًا بجماعة "الإخوان المسلمين" ومدعومة من أنظمة إسلامية مثل السعودية، فلجأ معظم القوميين حينها – بصورة مقصودة أو غير مقصودة – إلى الماركسية مستفيدة من وجود منظومة الاتحاد السوفيتي، وهو ما أفرز لاحقًا أنظمة ديكتاتورية زادت من انقسام المجتمعات العربية على أسس طائفية وعرقية.

شكّلت حقبة الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر، بكاريزمته الشخصية وبرنامجه القومي، "حقنة مورفين" جيدة لنحو عقدين في تأجيل الإجابة العملية عن سؤال مستقبل تركة الإسلام، لكن هزيمة عام 1967 ووفاته بعدها بثلاثة أعوام، وصعود الرئيس المصري الراحل محمد أنوار السادات، التي أذنت بأفول هذا التيار رغم جميع محاولات الإنعاش اللاحقة. فعصر السادات، الرئيس المؤمن، كان بداية حقبة "العودة إلى السلف" إذ يعتبر أحد أهم مهندسي عودة التشدد الإسلامي الذي فرّخ جميع التيارات الإرهابية على رأسها "طالبان" و"القاعدة" بإعلانه دعم الحركتين في محاربة الاتحاد السوفيتي نهاية السبعينيات.

هكذا كان الجو "المشحون" الذي رسم تلك الفترة، لكن الفترة ذاتها شهدت بزوغ محاولات فكرية جادة لتنقية الفكر الإسلامي ومحاولة بعثه بطريقة عصرية، من خلال عدد من المفكرين العرب والمسلمين. هؤلاء المجتهدون اتفقوا بصورة غير معلنة على فكرة ضمنية وجوهرية وهي ضرورة مرور الإسلام بمرحلة "مارتن لوثر" المفكر الألماني الذي جدد فكر الكنيسة. لوثر، كان يُرى في عصره بأنه رجل شق صف الكنيسة، في حين رآه أتباعه الشخص الذي أعاد "المسيح" إلى المؤمنين، وذلك بترجمة الكتاب المقدس إلى اللغة الألمانية، واشتباكه الجريء، نظرًا لتمكنه اللاهوتي، مع الكنيسة الكاثوليكية. لم يكتف لوثر بذلك، بل اتخذ خطوة أكبر بإنشائه كنيسة –سميت ولا زالت– بالكنيسة "البروتستانتية" وهي من الكلمة الإنجليزية "Protestant" ومعناه "الاحتجاج".

وإذا نظرنا إلى خارطة العالم في ذلك الوقت، سنجد أن كنيسة هذا "المؤمن المشاغب" أنعشت المجتمعات التي اتبعته، خاصة في "الإمبراطورية البريطانية" حينها. إذ شكل التجديد الديني مفصلًا اقتصاديًا واجتماعيًا كبيرًا في القارة الأوروبية، وصولًا للمستعمرات التابعة لها.

لكن، هل لدينا "مارتن لوثر" في الفكر الإسلامي؟ إذا أردنا الحصول على إجابة منصفة، فقد نرى أن فكر "المعتزلة" –التي ظهرت في آواخر العصر الأموي وازدهرت في العصر العباسي الأول- أولى بواكير تجديد الخطاب الديني في الإسلام، حتى أن شعار "الإسلام صالح لكل زمان ومكان" يعود لها. وإن أردنا إجابة أكثر إنصافًا، فإن جميع التيارات الإسلامية التي ظهرت كالصوفية والشيعة والقرامطة، جميعها كانت محاولات لسحب البساط من "الإكرليروس" الإسلامي الكلاسيكي.

كان فكر المعتزلة أولى بواكير تجديد الخطاب الديني في الإسلام

في عصرنا الحديث، شكل فرج فودة، الذي تمت تصفيته من قبل أحد السلفيين المتشددين، ونصر حامد أبوزيد، والمفكر المغربي محمد عابد الجابري، وحتى المفكر السوري محمد شحرور، محاولات فكرية جادة لتجديد خطاب الإسلام وجعله أكثر عصرية وانفتاحًا وأقل عنصرية. إلا أن جميع هذه المحاولات الرائدة والعظيمة، اصطدمت بحاجزين هامين، أولهما فكر "الأزهر" السائد في المنطقة العربية، والذي يحارب بشكل ممنهج أي فكر إسلامي آخر يخرج عن عباءته، وثانيهما حاجز اللغة المبسطة التي لم تصل إلى الشارع خاصة من فئة الشباب.

وهنا، يحضر الحديث عن تجربة تجديد إسلامية أخرى، جسدها المفكر الإيراني علي شريعتي، هذا الشاب –الذي جرت تصفيته في لندن عام 1977- كان الأكثر شبهًا بتجربة مارتن لوثر، ليس لأنه أسّس كنيسة خاصة باسمه في قلب طهران جعلها معقلًا للشباب والشابات ومعتركًا فنيًا وثقافيًا وحسب، بل لأنه اعتمد لغة غاية في البساطة في كتاباته وخطبه.

علي شريعتي، الحاصل على شهادتي دكتوراه في تاريخ الإسلام وعلم الاجتماع الديني، تحرر من أمرين هامين: العمامة الطائفية في الخطاب، واللغة التنظيرية التي تستهدف النخبة فقط، فتوجّه إلى الجمهور بكلمات بسيطة تدرك أن مجتمعه يعاني من أمية وصلت في حينها إلى ما يزيد عن خمسين في المائة. لكن فكر شريعتي -كشعار المعتزلة الإسلام صالح لكل زمان ومكان- اختطف من مشايخ "قمّ" وتحولت كلماته الثورية والتنويرية إلى وسيلة لذر الرماد في العيون.

اليوم، نشهد أيضًا تحولًا جبارًا في الكنيسة الكاثوليكية برعاية البابا فرانسيس، الذي ذهب أبعد كثيرًا في خطابه من خلال قبول الآخر الملحد والمثليّ، فضلًا عن أتباع الديانات الأخرى، فيما يظل الإسلام غارقًا في جب عميق مملوء بالمياه الآسنة.

اقرأ/ي أيضًا:

يا عزيزي كلنا "نصوص"!

هل الربيع العربي من جلب الخراب؟