01-مارس-2016

مقطع من لوحة لـ عصام طنطاوي/ مصر

"وجهه خالٍ من الملامح، أنتِ إلى جواره، قطةٌ ذات فروٍ كثيفٍ لها عينان تلمعان بحدّة، يد الشاب تداعب شعركِ، شفتاه تهمّان لتقبيلكِ، الباب يفتح فجأة، أدخل أنا، تقفز القطة عن حافة السرير، أرى ظهركِ العاري
تموء القطة: ما الذي يحدث هنا؟
أنتِ تقولين باستغرابٍ أيضًا: لكنني بعيدةٌ جدًا!"

رأيتني داخلها، أحلامكِ التي تكتبينها بجنون مبالغٍ به، وعلى الأرجح أن ما حدث هو نتيجةُ خيالٍ زائدٍ في قراءتي، لكنني لا أفهم ما تعنيه تلك التفاصيل تحديدًا، ولا أفهم حتى هوسي بهذه الفكرة..

ربما عليَّ ألّا أشغل نفسي بالبحث عن الإشارات، لكن ماذا لو تهت؟ حسنًا إنني تائهٌ في الأصل ولن يضيرني الانغماس بتلك المتاهة أكثر، علي أن أُبقي شيئًا من ذاكرتي متيقظًا، مَن يعلم، ربما عند نقطةٍ ما أضطر للتخفف من وجودي، وتبدأ ملامحي بالتساقط كأنها حمولةٌ زائدة.

"أنتِ إلى جواره، يد الشاب تداعب شعركِ وشفتاه تهمّان لتقبيلكِ، الباب يفتح فجأة، تقفز القطة عن حافة السرير، أدخل أنا 
تقولين: لستُ أفهم شيئًا!
مرةً أُخرى تموء القطة: ما الذي يحدث؟".

لحظة، لقد قرأتُ شيئًا مشابهًا، إنه ذلك المشهد من فلم جوتاندا الذي يقف عنده ويكرره البطل في إحدى روايات موراكامي.
ربما علينا إذًا أن نتفق على أنَّ الأشياء تحدث، تحدثُ فقط، وبدون أن يطلق المرء أحكامًا يجب عليه أن يغلق عينيه أمام ما يجري ويظلّ فاتحًا قلبه، فالواقع هو كابوسنا الطويل..

"الباب يُفتح فجأة، القطة تقفز عن حافة السرير، أرى ظهركِ العاري، هذه المرة الشاب يحمل ملامحي، وشفتاي هما من تهمّان لتقبيلكِ
القطة تموء
تقولين مجددًا: لكنني بعيدةٌ جدًا!"

هذه اللعبة قد تكون مؤذية، حيث تخضع لقواعد خاصةٍ بها تختلف شروطها عن الواقع، لكن هل من أحدٍ يستطيع إقناعي بما يمكننا أن نجنيه مثلًا من مرور الزمن؟
الأيام تكبر وتصبح أسابيعَ، تتحول إلى شهورٍ ثم باكتمال حزمتها يصفعنا عامٌ آخر
أيُّ معنى ذاك الذي يمنحني إياه تراكمُ غيابكِ؟
أجزم أنكِ لا تكبرين مثلي، فالغائبون هم وحدهم من يمنحهم الزمن نضارته، لكن لا تخافي.. إن جئتِ سأركل الأيام على قفاها كي تجري بعيدًا عنا، ثقي بي، معكِ يمكنني أن أبتكر فكرةً موضوعيةً أكثر وفاءً وأقلَّ قسوة.

أعرفُ أن الأحلام شبكةٌ معقدة من شغفنا وخيباتنا، وأن الكتابة عنها أشبه بالمصيدة، حقل ألغام، مع كل خطوةٍ تتحول الحياة شيئًا فشيئًا إلى نسبٍ واحتمالاتٍ مبهمةٍ بين الوهم، النجاة، والجنون، رغم ذلك لستُ عابئًا بشيء، لا يهمني إن بدوتُ بائسًا أو معتوهًا، العالم الخارجي كذبةٌ محضة، اختلاق توازنٍ منطقي أمرٌ يبدو الآن شديدُ السخافة، ها أنا أمشي على أطراف حواسي وبكامل شغفي..أتورط بكِ، أودُّ فقط لو ألمس حزنكِ.

"الباب يفتح فجأة، تقفز القطة عن حافة السرير، أصابعي تمسُّد شعركِ وشفتاي تهمَّان لتقبيلكِ
للمرة الألف تقولين: لكنني لست موجودة في حياتك!"

كلماتكِ تدور مثل عويلٍ لا ينتهي، تحاول أن تهددني من داخل رأسي مرغمةً قلبي على الخفقان بشدّة، أنا الدخيل على عالمكِ،
ثم فجأةً تضرب في جذوري فكرةُ أن الحلم بالأصل ليس سوى جزء منّي، وأن ذلك التهديد ليس سوى صدى للوحدة التي تسري تحت جلدي كفيروسٍ لا شفاء منه..
بعد أن تخففتُ من وجودي، سيكون بمقدوري الآن السير خفيفًا، مواصلًا الغوص، أركز فقط على التقدم، لا أنظر حولي، ما من داعٍ لتذكر طريق العودة، فجميع الجهات مشرعة أمام سيل الهذيان الجارف، الحلم ذاته يتكرر، وفي كلِّ مرةٍ يزداد الألم داخلي، في كل مرةٍ يتّسع حجم المرارة.

إنّها لعنة وجودي..أو عدمه، لعنة حضوركِ أو غيابكِ، تبادلنا لأدوارنا المقنّعة بالحقيقة، إذ ما من حقيقةٍ في هذا المكان سوى اعترافي بما أدركته الآن عن الأحلام.. الأحلام ياحبيبتي فكرةٌ مريعة
مريعةٌ حدَّ الموت.

بعينين مُغمضتين وقلبٍ مفتوحٍ على آخرهِ أُواصل ما يمكن أن أُسمّيه مجازًا دربًا، يبدو تارةً مهددًا بالاختفاء، وأخرى يصعد بي إلى ما يُشبه الهاوية، وكلما واصلتُ تقدمي نحوكِ تصيرين أبعد، فأردّد: "أُحبِّكِ" على أنّها آخرُ ما عليَّ فعله، أردّدها لكي أُبدد الخواء القابع في جسدي، أردّدها ملء قلبي وخيبتي ووحشتي، أردّدها على أنّها آخرُ ما عليَّ تصديقه
أُحبِّكِ.. أُحبِّكِ وأُريد أن أتقاسم معكِ مشقّة البقاء على قيد الحياة.

اقرأ/ي أيضًا:

قبل الثلاثين بقليل.. قبّلني

الخامسة فجرًا بتوقيت القمر