09-مارس-2016

اهدموا أصنامكم (Getty)

دمشق - القرن الأول الهجري

خطا كاتب الحجاج بن يوسف الثقفي إلى مجلس الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك. تغيرت الحياة كثيرًا من بعد وفاة الوليد بن عبد الملك وتولي أخيه سليمان، أقصى سليمان كل أعوان الحجاج، فسجن محمد بن القاسم فاتح السند، وقُتل قتيبة بن مسلم الباهلي في محاولة خروجه على الخليفة خشية أن يلقى مصير صاحبه.

انقلبت الدنيا فجأة على الحجاج بعد وفاة الوليد بن عبد الملك، وتنكرت له بنو أمية

انقلبت الدنيا فجأة على سيرة الحجاج وصنائعه، وتنكرت له بنو أمية بعدما كان وأعوانه ملء السمع والبصر في عهد عبد الملك بن مروان وولده الوليد. كانت سيرة الحجاج حافلة بالعطاء؛ حارب ابن الزبير وضرب الكعبة بالمجانيق حتى إذا قدر عليه صلبه، وقمع ثورات أهل العراق ووأد فتنة ابن الأشعث وشرد بالخوارج وسير جنوده لفتح السند وماوراء النهر ليضمها إلى سلطان بني أمية.

اقرأ/ي أيضًا: حماس.. "جوكر" الانقلابين

يقولون إن الحجاج سفاك للدماء، سجن مئات وشرد مئات، وماذا كان عليه ليفعل مع آل الزبير الذين كادوا ينقضون مُلك بني أمية المحصورين في الشام، والخوارج الذين يكفرونهم، والطامعين الذين التفوا حول ابن الأشعث والعلماء الذين أيدوا ثورته، وفوق كل ذلك ماذا كان عليه ليفعل حتى يضبط أمر العراق ويخرجهم للقتال تحت راية الأمويين؟

كل هذا لا يمكن أن يتصدى له رجل إلا الحجاج، يدرك الجميع تلك الحقيقة، وليلعنوه ما شاؤوا أن يلعنوه لكنهم يعلمون أن مُلك بني أمية بقي وترسخ بفضله. كان عبد الملك يعاتبه ويغلظ له القول وهو يدرك ذلك فلا يعزله ولا يزيد عن القول الغليظ. وبعد أن مات الحجاج ومن بعده الخليفة الوليد وتولى سليمان، صار الحجاج فجأة طاغية فاجرًا وولاته أمراء جور. لا ريب أن كاتب الحجاج حين يمثل بين يدي الخليفة الآن، سيرى منه نكالًا وعذابًا.

دخل الكاتب على الخليفة لا يدري ما يُفعل به، والخليفة باسم الثغر هازئًا. نظر إلى جلسائه، ثم مال برأسه نحو الكاتب وسأله: "قل لي يا هذا، أين ترى الحجاج الآن؟ أهو في النار أم ما زال يهوي إليها؟"

كانت مملكة غرناطة آخر ممالك الإسلام في الأندلس هدف غزوات الإسبان المتتالية

رمقه الكاتب سئمًا، لم يطق كل هذا الزيف والتنكر لرجل كان يحكم العراقين لبني أمية وسيفهم المسلط على عدوهم. أجاب بجرأة لم يعرف من أين جاءته : "يا أمير المؤمنين، يُبعث الحجاج يوم القيامة بين أبيك وأخيك، فضعه في النار حيث شئت!".

اقرأ/ي أيضًا: ما يجب أن يقال في يوم المرأة

تناقل القُصاص تلك القصة في كتب الأدب وتندروا بها، ولا يدري أحد أوقعت أم لا، لكن تلك الإجابة اختزنت الحقيقة فما تركت منها شيئًا.

غرناطة - القرن الثالث عشر الميلادي

انهارت الأندلس تحت حكم الموحدين فجأة، بعد معركة العُقاب التي انتصرت فيها الممالك الإسبانية على خليفة الموحدين وكسروا جيوشه، انساح الإسبان في أرض المسلمين وانتزعوا القواعد الكبرى، ثار الأندلسيون أنفسهم على الموحدين وطردوهم ثم تناحروا فيما بينهم. استخلص أبو عبد الله بن الأحمر الأندلسي مدينة غرناطة وبعض القواعد حولها ليؤسس مملكته الوليدة التي ستصبح آخر ممالك الإسلام في الأندلس. بالطبع كانت تلك المملكة هدف غزوات الأسبان المتتالية، في البدء قاوم ابن الأحمر، ولما أيقن عبث المقاومة قرر المهادنة والخضوع. أعطى الولاء لملك قشتالة وتعهد له أن يكون عونًا له في حروبه وأن يشهد اجتماعات مجلس قشتالة النيابي كأي أمير تابع للعرش القشتالي.

لم تمر فترة كبيرة حتى اضطر ابن الأحمر الكبير أن يفي بوعوده؛ فقد حاصر ملك قشتالة فرناندو الثالث إشبيلية وعزم على الاستيلاء عليها. ذهب إليه ابن الأحمر بجنوده وعاونه حتى أسقطها ودخل مع جنود قشتالة فاتحين منتصرين، ثم لم يلبث التابع الذليل أن عاد بجنوده يجر أذيال عاره عائدًا إلى غرناطة.

في الطريق اصطف الناس ينظرون إلى الملك الجليل وجيشه المنتصر، سألوه حتى ألحوا عليه، سألوه: "من غلب؟". ارتج عليه القول، لم يدر ما يقول. لم يدر بلسانه وهو ينطق: "لا غالب إلا الله!".

قاوم أبو عبد الله بن الأحمر الإسبان، ولما أيقن عبث المقاومة قرر المهادنة والخضوع

صارت شعارًا لبني الأحمر زينوا به قصورهم وجدرانهم، وصارت تلك الأسطورة من الأساطير المؤسسة لدولتهم، وقصة تُروى بأثر رجعي كيف كانت تلك العائلة التي حكمت الأندلس عشرات السنين خائنة من البداية، لكن أحدًا لم يفكر كيف عاد أهل غرناطة إلى بيوتهم آمنين مطمئنين بعدما لعنوا ملكهم وجيشه، وتنعموا بالأمن والسلام ما تلا من عقود نتيجة لما لعنوه من أجله، لعلهم لذلك لعنوه فحسب ولم يخرجوا عليه، أبروا ذمتهم ثم عادوا إلى منازلهم لينعموا بصفقة أبي عبد الله بن الأحمر الكبير.

اقرأ/ي أيضًا: من فرانكو إلى السيسي.. الدكتاتورية حظوظ!

باريس - القرن الثامن عشر الميلادي

واجهت فرنسا الثورة العديد من التحديات، كانت تلك الثورة تهدف إلى ملكية راشدة وتلون فرنسا بلون أسرة البوربون الملكية البيضاء ولوني الشرف لمدينة باريس الأزرق والأحمر، لكن الملك لجأ إلى النمساويين أصهاره والملوك مثله واندلعت الحرب بين الثورة الوليدة والملكيات الأوروبية، فوقعت المعارك بين فرنسا والعروش الأوروبية، تدهورت قيمة العملة الفرنسية وحدثت أزمة في توفر المواد الغذائية واندلعت الثورات في غرب وجنوب غرب فرنسا، بدا أن تلك الثورة الوليدة على وشك الفشل وأن أحلامها بعصر الأنوار والمساواة والإخاء وإزاحة الإقطاع والقضاء على سلطة الكنيسة، كل تلك الأحلام كانت على وشك التحول إلى كوابيس. ثم جاء روبسبير.

لم تفرق المقصلة بين أحد، فإذا بها تلتهم عنق روبسبير نفسه بعد انتصار فرنسا على النمسا

روبسبير المحامي الثائر المخلص لمبادئه والمدافع عن حرية العبيد وعن الجمهورية الفرنسية، عضو حزب اليعاقبة الثوري والرئيس الثاني للجنة السلامة العامة، استطاع التغلب على كل الأخطار الداخلية والخارجية، انتصرت فرنسا على النمسا في معركة فاليري واسترد الجيش الفرنسي طولون من الإنجليز بقيادة الملازم الشاب نابليون بونابرت، تعافت العملة الفرنسية قليلًا، وساهمت الأسعار الجبرية في حل مشكلة الغذاء، تمت العديد من المذابح وأُرسل الآلاف إلى المقصلة؛ رمز الثورة ورمز عهد الإرهاب الذي قاده روبسبير، تم إعدام العديد من النبلاء والعوام والرهبان، حتى رفاق الثورة، لم تفرق المقصلة بين أحد، ثم إذا بها تلتهم عنق روبسبير نفسه في النهاية بعد انتصار فرنسا على النمسا بشهر واحد، لقد زاد تغول الوحش إلى حد لا تؤمن عواقبه وقرر رفاقه أن يذهبوا به إلى المقصلة قبل أن يذهب بهم.

اقرأ/ي أيضًا: تاريخ من الخرَس

سيذمه التاريخ ويصمه بالدكتاتور السفاح عديم الرحمة والشفقة، سيصفه أعداؤه وأصدقاؤه بالأمس بذلك وسيلعنون عصره الدموي، لكن في قرارة أنفسهم، تعلم تلك النخبة جيدا أن روبسبير خاض في الدماء نيابة عنهم، وبعدما انتصروا أصبح هو كبش الفداء، وتنعموا هم بثمرات إرهابه وعلى وجوههم براءة الملائكة ودهشة الأطفال.

*  *  *

يمتلئ التاريخ بعشرات ومئات من تلك القصص، تلك الفترات التي تؤمن فيها السلطة الحاكمة أو الشعوب أو النخبة المثقفة أن الحل يكمن وحده في الجريمة وسفك الدماء، سيدفع كل عن نفسه تلك التهمة ولن يصرح بها. سيتطوع رجل للقيام بما يلزم فيمنحونه الأوسمة والمناصب والقوة ويقعوا له ساجدين، حتى إذا انجلت المحنة أو رأى كل أولئك أن طاغيتهم لم يحسن صنعًا، وانجلت مع ذلك عمق الجرائم المشينة التي ارتُكبت، سيضحون به في لحظة ويغسلون عارهم بدمه أو بلعنه في كتب التاريخ ليبوء بإثمهم وإثمه، سيصيحون في صوت واحد: "اقتلوا الطاغية الذي نحيا بفضله!".

اقرأ/ي أيضًا: 

لا تلووا ذراعنا بالشهداء

في حاجة الاستبداد إلى مؤامرة