11-مايو-2016

في الجولان العربي المُحتل (Getty)

لا شك أن المنطق يوجب على مقترف الخطأ حصرًا أن يعتذر عنه، ولذلك لا يتوقع الناس عادة، إذا ما سلمت أفهامهم وضمائرهم من الزيغ، لا يتوقعون من الناس أن يعتذروا إليهم عن أشياء لم يقترفوها. مع ذلك كلّه، لا أجد أن أحدًا في هذه الدنيا يستحق أن يُكسر من أجله منطق الاعتذار هذا أكثر منكم يا شعب سوريا العظيم، فها أنا أكتب إليكم معتذرًا عن أشياء كثيرة لم أقترفها، ولم يقترفها فلسطينيون كثيرون غيري، ولكننا جميعًا نجد شيئًا ما في أركان قلوبنا البعيدة، يتجاوز المنطق المذكور آنفًا ويدفعنا إلى الشعور بأننا مدينون لكم بشيء يشبه الاعتذار، علّكم تعلمون في غمرة ما تواجهون من أهوال، أن ثمّة أُناس في هذا العالم لا يزال يهمّهم أن لا تحملوا في قلوبكم الطاهرة تجاههم أدنى عتاب، فما بالكم بما هو فوق ذلك.

كثيرٌ من الفلسطينيين لا يرون حريتهم أو دماءهم أثمن بحال من حرية ودماء السوريين

عرف قلبي التعلق بسوريا منذ أن كنت طفلًا أبصر النور لأول مرة في الجزء الشرقي من "سوريا الجنوبية"، حيث عشت سني طفولتي الأولى ونشأت في بيئة أردنية فلسطينية، شكّلت زيارة "الشام" أو دمشق جزءًا أصيلًا من ثقافتها الشعبية التي أنتجت الكثير من القصص الجميلة عن الشام وأهلها، مما جعل الطفل الصغير يتخيل "الشام" كجبل بعيد أشم يعيش فيه ذاك النسر الذهبي الذي أقنعته أفلام الكرتون بوجوده. عزّز مديح أم الصبي على مسامع إخوته لكل ما هو قادم من الشام في السوق، من ملابس وأقمشة وتحف، عزّز كل ذلك صورة الجنة الشامية في قلبه، وأوجد في عقله ارتباطًا طبيعيًا بين الجمال والذوق الرفيع واللمسات العذبة من جهة وبين الشام من جهة أخرى، مما أوجد لحبها في قلبه متسعًا، رغم انشغال أبويه وحرصهم على توزيع حصص المحبة في قلبه بين الأرض التي تحتضنه وبين أرض الوطن السليب، كالتزام بتقليد يتوارثه الفلسطينيون في شتى بقاع الدُنيا بادخار الحصص الكبرى من قلوب أبنائهم لتلك الأرض الممتدة بين النهر والبحر. بلغ حبّي لسوريا مبلغًا دفعني لوضعها على رأس قائمة البلدان التي أرغب بزيارتها رغم تعارض ذلك مع "المنطق السياحي"، الذي يقتضي أن يفضل الناس زيارة بلدان ببيئة طبيعية وثقافة مختلفة كليًا عن بلدانهم الأصلية، وهو ما لا ينطبق على سوريا وفلسطين بطبيعة الحال.

اقرأ/ي أيضًا: تحرير سرت.. معركة "الإخوة الخصوم"

ورغم أن جُلّ ما كان يسمعه الصبي عن الشام لا ينحرف عن جادة الجمال، إلا أن الصورة لم تكن وردية تمامًا، ولعلّ بداية إدراكه بأن ثمّة ما هو قبيح أيضًا على أرض الشام كانت سماعه لأحاديث الناس الذين تسنّت لهم زيارة سوريا من قبل، عن العسكر السوري الذي أضاف إلى تقاليد الاستقبال على حدود سوريا الجنوبية، إلزام المسافرين على دسّ ما يسعهم دسّه من أوراق نقدية في جوازات سفرهم لدى تقديمها إليهم، حتى أن غياب هذه الأوراق النقدية كان من الممكن أن يكلف المسافر المنع من دخول سوريا! انتقل الصبي مع عائلته إلى الضفة الغربية لنهر الأردن، وكبر الصبي قليلًا وبدأت صورة الأوضاع في الشام تتضح أكثر، فقد أصبحت تطرق مسامعه أحاديث الفلسطينيين حول صعوبة تواصلهم مع أهاليهم في مخيمات اللجوء في سوريا، أو أبنائهم الذين يدرسون في جامعاتها، بسبب الرقابة المفروضة من النظام السوري! حتى أنه لم يكن مستغربًا أن تعترض مكالماتهم الهاتفية مع أقاربهم من قبل رجال المخابرات، مما جعل الوصية بتجنب أحاديث السياسة في المكالمات المتجهة نحو سوريا أمرًا مفروغًا منه. المفارقة أن كل ذلك كان يجري باسم الممانعة والدفاع عن فلسطين، وهو ما يقودنا إلى العودة للحديث عن موضوع الاعتذار.

يا شعب سوريا العظيم، أكتب إليكم اليوم للاعتذار عن استخدام اسم فلسطين في تبرير قمعكم وقتلكم وتشريدكم في أصقاع الأرض من قبل أحد أكثر الأنظمة الدكتاتورية إجرامًا في التاريخ، أكتب إليكم لأخبركم أن كثيرًا من الفلسطينيين ليسوا أكثر زهدًا بشيء أكثر من زهدهم بتحرير مزعوم لبلادهم على يد الطغمة المجرمة وعصاباتها التي تحكمكم منذ عقود طويلة، ولأؤكد لكم أنّ كثيرًا من الفلسطينيين لا يرون حريتهم أو دماءهم أثمن بحال من حرية ودماء السوريين، مع العلم أن نظام الإجرام الأسدي ما كان ليعدم وسيلة أو قضية أخرى لتبرير كل جرائمه من خلال المتاجرة بها.

لم ينس الفلسطينيون الشهيدَ ابن حماة سعيد العاص الذي قاتل برفقة عبد القادر الحسيني واستشهد على مشارف القدس

أكتب إليكم يا شعب الثورة الأطهر في تاريخ العرب المعاصر، لأخبركم أن كثيرًا من الفلسطينيين لم ينسوا أن أجدادهم أعلنوا في المؤتمر الفلسطيني الأول في القدس في بدايات الاحتلال البريطاني لفلسطين، أن بلادهم هي سوريا الجنوبية وجزء لا يتجزأ من سوريا الأم، وكل ذلك كان قبل اختطاف هذه المصطلحات واستخدامها في أدبيات الحزب القومي الكريه الذي أقام ممالك الظلم والتجبر والطغيان في كل أرض وقعت تحت حكمه. أكتب إليكم لأخبركم أننا لم ننس أنّ من أذكى وأشعل بدمائه ثورة عام 1936 كبرى ثورات الفلسطينيين ضد الاحتلال البريطاني قبل النكبة، كان الشيخ الشهيد عز الدين القسام ابن جبلة السورية، كما أننا لم ننس ابن حماة الشهيد سعيد العاص الذي قاتل برفقة عبد القادر الحسيني واستشهد على مشارف القدس، فضلًا عن كرم استقبالكم للفلسطينيين حين أُجبروا على مغادرة مدنهم وقراهم في عام النكبة.

اقرأ/ي أيضًا: العلويون.. أبناء الخوف أم رعاته؟!

أكتب إليكم يا شعب الشام العظيم لأخبركم أن حبنا لكم مختلف كليًا عن أي محبة حقيقية كانت أو مدعاة قد تظهرها لكم شعوب أخرى في المنطقة، فنحن نحبكم كحب الأم لولدها والأخ لأخيه، بل كحبنا لأنفسنا، لأننا نعلم أننا وإياكم شعب واحد يجمعه الدين واللغة بلهجاتها المتقاربة والتاريخ والثقافة والتراث واللباس والطعام وحتى أساليب التعبير عن الابتهاج بهذه الحياة أو الأسى منها حين تحل علينا نوازلها، ولولا تفريق الاحتلالين الفرنسي والبريطاني بيننا الذي كان ضروريًا لسلخ بلدان سوريا الكبرى وزرع الكيان الصهيوني في الجزء الجنوبي الغربي منها، لكان من الممكن ربما اليوم لابن حلب أن يحل ضيفًا عند أهله في حيفا. 

نحبكم يا شعب سوريا العظيم حبًا خالصًا غير مشروط بانحيازات الإيديولوجيا ولعبة المحاور وحسابات السياسة وشهوات الدنيا، فلا نحبكم ونسعى للتقرب منكم لاستخدام مأساتكم ودروب عذاباتكم ولجوئكم لتحقيق غاياتنا وطموحاتنا في الحصول على اعتراف الرجل الأبيض في أوروبا أو استدرار تمويله، وكم تمنّينا لو تسنّى لنا أن نستقبلكم في بيوتنا ومدننا وقرانا، لنفعل ذلك بكل سرور دون أن تشغلنا الهموم الديموغرافية والحسابات الطائفية التي تخشى الإخلال "بتوازن" النسيج الاجتماعي في بلادنا. كما أننا لا نحبكم طمعًا بمباشرة بشرة بـ(ميلانين) أقل، فلا تُنفق نساؤنا جُلّ أوقاتهن على الإنترنت بحثًا عن وصفات للحصول على "بشرة شامية"، كما لا نحبكم اشتهاءً لوصفات الطعام والشراب في مطابخكم! نحبكم لأن ذات الأوجاع تجمعنا إذ قدّر الله لكم أن تعيشوا فصول نكبتنا واحداً تلو الآخر، خذلانًا وتآمرًا ومتاجرة ووعودًا فارغة، وقتلًا وتشريدًا على يد عدو أكثر حقدًا وفتكًا وإجرامًا!

يا شعب سوريا العظيم، دعوني أؤكد لكم أن كل الفلسطينيين، سواء من ارتدوا عباءة السياسة أو الثقافة، ممن أبدوا أقل تأييد ممكن لنظام الإجرام الأسدي لا يمثلون سوى الخسّة في نفوسهم، وأن معظم الفلسطينيين منهم براء، فجُلّ هؤلاء الشبّيحة قادمون من فصائل تدعي التمنّع على إسرائيل بالشعارات القادمة من أزمنة أخرى، ولا يقومون بشيء فعلي على "الصعيد النضالي" سوى انتظار المخصصات المالية والرواتب في نهاية كل شهر، والتجمع في حافلة أو اثنتين لإحياء ذكرى "انطلاقة" فصائلهم كل عام. هذه الفصائل التي تملك تاريخًا "مشرفًا" في الممانعة التي دفعتهم من قبل إلى تنفيذ أوامر نظام الطغيان الأسدي بحصار وتجويع وقصف الفلسطينيين في مخيمات لبنان، وهو ما يقومون به اليوم في مخيم اليرموك وسواه. وأمّا الشبيحة الفلسطينيون من ذوي النكهة الإسلامية فهم قادمون من فصيل ممول إيرانيًا كانت قد شابت تأسيسه مجامعة فكرية مع نظريات الثيوقراطية الفارسية المتمثلة بحكام ملالي طهران، في حين أنّ الشبّيحة من أبناء الفصيل الذي حارب في يوم من الأيام نظام الأسد وأنفق الكثير من دماء أبنائه تحت شعار الحفاظ على "القرار الفلسطيني المستقل"، يمارسون التشبيح اليوم من باب المناكفة السياسية لخصومهم الفلسطينيين الذين -بالمناسبة- بالكاد نجوا من المأزق الأخلاقي برفضهم الانحياز للنظام وجيشه الخائن الذي يذبح السوريين بعد أن ساهم وجودهم في دمشق -شاؤوا أم أبوا- بالترويج لأكذوبة الممانعة. كما يمارس أبناء هذا الفصيل التشبيح اليوم رغم أن الأرشيف لا يزال يحتفظ بفيديو لوزير دفاع النظام السوري السابق مصطفى طلاس يصف زعيمهم ورمز فصيلهم الخالد بأقذع الصفات، لأن قلوبهم معمية عن رؤية الحق كما هي حالهم في كثير مما يخص شؤون القضية الفلسطينية، ولأن عشاق الاستبداد واستعباد الشعوب بين العرب أسرع تعاطفًا وأمتن تحالفًا مع بعضهم البعض -للأسف- من المتطلعين منهم إلى حرية الشعوب وكرامتها. 

لا تتوانى كثير من الفصائل الفلسطينية عن استخدام القضية الفلسطينية لإشباع شهواته في تقليد أسوأ ما أنتجه العرب من أنظمة استبدادية

ولعل الإتيان على ذكر فصائلنا الفلسطينية، يا شعب سوريا العظيم، يمكنني من التماس عذركم لنا عن استخدام نظامكم لقضيتنا العادلة لاكتساب "الشرعية" للتسلط على رقابكم كل هذه السنين، فكثير من هذه الفصائل لا يتوانى عن استخدام القضية الفلسطينية لتحقيق مآربه الخاصة ولإشباع شهواته في تقليد أسوأ ما أنتجه العرب من أنظمة استبدادية، فإذا كان الاستخدام غير النبيل لأعدل قضية في الدنيا مارسه بعض أبنائها، أفيعزّ على نظام إجرامي يمثل مدرسة متكاملة الأركان في الطغيان والإجرام والخسّة السياسية مثل النظام السوري أن يستعمل ذات القضية لتحقيق مآربه الاستبدادية؟!

يا شعب سوريا العظيم، لعل قراءتكم لرسالتي هذه يُعتبر ترفًا لا يليق بظروف معاناتكم الآن التي أنتجها تواطؤ القريب والبعيد في هذا العالم على قتلكم ووأد ثورتكم الطاهرة، ولعل بعضكم قد يعتبرها غسلًا لأيدينا نحن الفلسطينيين من خطايا هذا العالم القذر بحق السوريين، ومحاولة بائسة للتطهر من إثم خذلان الثورة الأقرب لله والقضية الأكثر أخلاقية في هذه الحقبة من زمن التوحش الإنساني، إلا أنّ هذه الرسالة البسيطة، يا شعب سوريا النبيل، هي جُهد المُقل وأضعف الإيمان، ولعل الإله العظيم الرحيم الذي لم تملّ ثورتكم الطاهرة من استمطار رحمته وتعليق كل آمالها عليه، لعلّه يرحمني ويتقبلني في ملكوت عدالته يوم آتيه وحيدًا أدفع أمامي كلماتي القليلة هذه التي لا أظنني فد قمت في حياتي بعمل يجعلني أرجى لرحمته من كتابتها، مخاطبًا إياه بكل تذلل ممكن في حضرة جلاله أن يا رب.. أنا ابن شام الأنبياء التي تكفّلتَ بها وبأهلها، اغفر لي تقصيري عن نُصرة أهلي حين ذُبحوا على يد بعض شرار خلقك، وإني لأرجو يا ربُّ أن تغفر لي زعمي وقتها أنّي لم أملك لهم سوى الكلام.. الكلام يا رب..! 

اقرأ/ي أيضًا:

التونسيات.. لا جدران مع الفضاء العام

ماذا بعد فوز مسلم بعمودية لندن؟