05-أكتوبر-2015

الاستيطان ليس حملات سياحية (جاك غيز/أ.ف.ب/Getty)

في بداية الحرب الأهلية اللبنانية كان بيار الجمّيل (الجد) يقول إنه مع القضية الفلسطينية. كانت لديه طريقته في أن يكون مع فلسطين والفلسطينيين. ويعرف الجميع بقية الحكاية. وهو في طريقته تلك وريث نهجٍ طويل، ترك آثاره حتى بعد ما افترضنا أنه نهاية الحرب. وعندما نتحدث عن الإعلام نتحدث عن تيارات ثقافية. تاريخيًا، اختارت "النهار" نهج الجمّيل في النظرة إلى القضية الفلسطينية. ورغم كل شيء، لا يمكن القول إن الصحيفة كتائبية، فلقد حدثت فيها اختراقات عظيمة، وإلى الأبد سيذكر الجميع أن الشهيد سمير قصير، مثلًا، كان أحد أبرز وجوهها. لكن ماذا بعد سمير؟

إنها مسألة قواعد مهنية بالدرجة الأولى وليست مسألة أيديولوجيا وقضايا

في تغطيتها لعملية القدس الأخيرة، للإنصاف، "النهار" اتخذت  موقفًا حياديًا بين "ليهافا" وبين المقدسيين. إنها لا تؤيد "تدفيع الثمن" تمامًا، ولكنها لا تمانع أن يقوم الجيش الإسرائيلي بمطاردة المسؤولين عن مقتل مستوطنَيْن بالضفة. "النهار"، تصدر في غواتيمالا، وتحريرها للخبر، بلغةٍ محايدة ورشيقة، هو تحرير بريء. إنها مؤسسة بعيدة عن الأسئلة. بلا شك، المحرر الذي صاغ الخبر في صحيفة "اليمين اللبناني"، هو محرر محترف. محايد إلى درجة أن لا أحد يصدقه. يمكننا أن نقترح صيغة أكثر حيادًا على مقاييس "النهار":

"في بلادٍ بعيدة، لا نعرفها، ونسمع عنها، يسمّونها أورشليم، وثمة من يقول إنها "القدس"، هبط شاب بالباراشوت، من كوكبٍ لا نعرفه أيضًا، ويرجح أن الجنسية التي ينتمي إليها هي "فلسطين"، ولكنها جنسية لا تعترف بها الأمم المتحدة، ما يعني أنها غير موجودة (فالنهار محايدة)، وعليه، فإن الشاب الذي هبط، كائن غريب، لا نستطيع تحديد جنسيته. واستل هذا الكائن الغريب سكينًا، وطعن مواطنين، من فئة يسمى أهلها مؤقتًا مستوطنين. طعنهم حتى الموت، وأخذ مسدسًا من رجل الشرطة، وأطلق النار على الآخرين، قبل أن تنال منه العدالة، والآن، يعمل الجيش الإسرائيلي على مطاردة المسؤولين".

إقرأ/ي أيضًا: في رحاب الشوفينية اللبنانية

ليست هذه دعوة للنهار بأن تحرر الخبر على طريقة "المنار". فالمنار تعتبر السوريون كائنات فضائية مثلًا وجميعم ينتمون إلى داعش باستثناء بشار الأسد. وليست دعوة إلى تحريره على طريقة "النداء"، صحيفة الحزب الشيوعي اللبناني التي كانت تصدر خلال الحرب الأهلية اللبنانية، وكانت تستعدي نصف اللبنانيين ولا تريد أن تسمع حتى وجهة نظرهم. المطلوب أن لا تحرره على طريقة "معاريف".  للإنصاف أيضًا معاريف أسوأ من النهار، لكن ليس معقولًا ان تأتي النهار بعد "هآرتس" في سلم الإنحياز إلى الجيش الإسرائيلي.

والمسألة، في أية حال، مسألة قواعد مهنية، وليست مسألة أيديولوجيا وقضايا أيضًا. لا يوجد شيء اسمه جيش الدفاع الإسرائيلي، أو الجيش الإسرائيلي، إنما اسمه جيش الاحتلال الإسرائيلي. حتى حسب المواثيق الدولية، التي يعترف بها المحايدون، الجيش الإسرائيلي يحتل القدس. ولا يوجد شيء اسمه "يطارد المسؤولين".  لقد توجه جيش الاحتلال إلى منزل الشاب وخرّبه وحقق مع أهله بطريقة لا أخلاقية كما درجت العادة، واحتمال هدم المنزل ما زال قائمًا. ولا يوجد شيء اسمه مواطنون اسرائيليون، خاصةً في هذا الخبر الرديء، إنما يوجد مستوطنون. والفارق كبير بين المفردتين. نتحدث عن معايير مهنية، وعن مفردات دقيقة، وكل من لا يلتزم بها، ليس مهنيًا، إنما هو ملتزم بأدبيات الاحتلال، حتى وكالات الأنباء التي لديها حد أدنى من المصداقية. مسألة الدعاية ليست مزحة، فكيف إذًا ينظر إلى المشاركة فيها؟

العنف ليس مجرد شاب يحمل سكينه وينتقم لنفسه من ذلٍ لا يتوقف

طبعًا المشهد ليس لطيفًا، الطعن ليس لطيفًا، ليس مستحبًا، ولا أخلاقيًا. يمكن أن نفهم أن محرر "النهار" هو شخص "حساس". لكن العنف ليس مجرد شاب يحمل سكينه وينتقم لنفسه من ذلٍ لا يتوقف. العنف هو تربية، هو منتج إسرائيلي بامتياز. العنف هو مسألة تاريخية في فلسطين، وما لا تعرفه "النهار"، أن الاستيطان ليس حملات سياحية، وأن مهند الحلبي ليس عنيفًا، وأن من واجب المحرر أن لا يحرر الأخبار كما لو أنها أتت للتو من كوكب المريخ، لا من القدس، أو أنها نقلًا عن وكالة أنباء إسرائيلية. حتى من الناحية المهنية، أتت عملية مهند الحلبي، في سياق الحرب الدائرة بين الفلسطينيين والمحتلين. الفلسطينيون الذين يطردون من منازلهم، ويتعرضون لآلاف المضايقات والإهانات يوميًا، على الحواجز ومن سكان الكيبوتسات، التي نشأت على أرضٍ هي أرضهم في الأساس.

إقرأ/ي أيضًا: استنساخ شارون