26-يونيو-2016

طفل مهاجر في لندن (Getty)

على كوكب واحد في عالمنا تجري كل المتناقضات دون أن يتأذى المنطق في شيء، لأن كل شيء يبدو طبيعيًا، ظاهريًا على الأقل، وإن كان الواقع أكثر سخرية مما قد نتصور. في مصر، حيث الدكتاتورية العسكرية تشعل المعركة من جديد في الشارع، إذ قام عبد الفتاح السيسي مستندًا على صلاحيات منحها هو وحده لنفسه بترسيم الحدود البحرية مع المملكة العربية السعودية، دون الرجوع إلى أجهزته السيادية التي تأتمر بأمره، ودون الاستماع إلى مستشاريه الذين عينهم هو نفسه، ودون الركون إلى أي مظهر شكلي من مظاهر النفاق الديمقراطي، قام من ذاته هكذا بـ"منح" الجارة السعودية جزيرتين على مدخل العقبة، وهما موقع استراتيجي من الدرجة الأولى بالنسبة لمصر، لتستخدمه إسرائيل كمنفذ تجاري في منتهى الأهمية لها، خاصة في تجارة السلاح مع الهند.

العبثية ليست فقط في منح الجزيرتين دون استفتاء الشعبي، إنما في منح العدو الاستراتيجي مساحة للتحرك ضد المستقبل

العبثية ليست فقط في منح الجزيرتين دون طرح الموضوع للاستفتاء الشعبي، لكن في منح العدو الاستراتيجي مساحة للتحرك ضد المستقبل، ضد البلاد، وفي استخدام هذا المدخل فيما بعد ضد مصر، وتوريط المصريين في صراع مستقبلي لاستعادة هذه الأرض.

اقرأ/ي أيضًا: بلال المؤمن بنفسه

بينما على الجانب الآخر من النهر، وبعد أن كانت عيون بريطانيا تتطلع منذ الخمسينيات إلى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وانضمت بالفعل عام 1973، بعد أن تمتعت بريطانيا بميزاتها وضماناتها الكاملة، التي تحميها من التمييز في السوق الأوروبية كونها احتفظت بعملتها العريقة حتى اليوم، يقرر البريطانيون اليوم أن ينفصلوا ويطرح الأمر للاستفتاء الشعبي رئيس وزراء الحكومة البريطانية ديفيد كاميرون، وهو من أبرز الوجوه الطامحة إلى البقاء في الاتحاد الأوروبي هو وعدد من وزرائه مع العلم بأن هذا القرار قد يعرض منصبه للخطر بعد نتائج الاستفتاء.

على أي حال، ستدخل بريطانيا في تسوية طويلة قد تصل إلى عامين بشأن إجراءات خروجها من الاتحاد الأوروبي، وفي هذه الأثناء ستظل وفية بالتزاماتها للاتحاد وستظل جزءًا منه. أما القاهرة فهي خاضعة تمامًا لمزاج السيد الرئيس الذي عين رئيسًا جديدًا لمجلس الدولة، وعين معه لفيفًا من المستشارين قبيل موعد النظر في الطعن في بطلان اتفاقية ترسيم الحدود.

وفي هذه الأثناء يقبع في سجون النظام عدد لا بأس به من الشباب قرروا أن التنازل عن أرض مصرية، ولو لجارة عربية، أمر يجب أن يخضع لإرادة الشعب، وليس لمزاج تحكمه أجندة التوازنات مع إسرائيل، ولا لسلام يكون شرطيه والمشرف عليه ومنظمه الولايات المتحدة "الشقيقة".

انتصر المحافظون في بريطانيا وسيغير هذا وجه السياسية إلى الأبد

انتصر المحافظون إذن في بريطانيا وسيغير هذا وجه السياسية إلى الأبد، وسيكون هناك معطيات جديدة على الجميع أن يعيد فهمها في المستقبل، ووقف نايجل فاراغ يقول لحكومة كاميرون: لقد فقدت ثقة الشعب اذهب الآن!

اقرأ/ي أيضًا: الشذوذ والتطرف.. تبريرات إعلام الغرب واتهاماته

أتذكر الآن الشاب اليوناني ألكسيس تسيبراس اليساري، وهو يعد اليونانيين بانتهاء سياسيات التقشف بعد توليه رئاسة الحكومة، بغض النظر عن بروكسل وإملاءاتها، وأذكر الكلمة التي قالها لي صديق بأن "الاتحاد الأوروبي سيواجه يومًا ما مصير الاتحاد السوفيتي بغض النظر عن اختلاف السياقات".

أما نحن في الجانب الآخر فننتظر انتظار المتشائم العارف بما ستؤول إليه الأمور، والحكاية من بدايتها وكأنها صراع لا يخصنا، في العادة، وفي سياق اللامنطق هنا الشعوب آخر أطراف المعادلة رغم كونها أول من يدفع الثمن. هناك من يحذر بريطانيا من اختياراتها، رئيس وزرائها يقول إن بريطانيا قفزت في حفرة مظلمة، وهناك من يحذر من سيناريوهات الكساد الكبير 1932، ودخول العالم النفق الاقتصادي المظلم الذي سيطال أهم اقتصاديات الدول المعتمدة على الصناعات المكلفة.

المحللون يشيرون أن الاتحاد الأوروبي سيعاقب بريطانيا حتى لا يشجع دولًا أخرى للخروج من حظيرته، لكن كل هذه أثمان تُدفع نتيجة اختيار شعبي حر، حتى وإن قادته أحزاب محافظة، أما الاختيارات التي يختارها عنا الرؤساء والزعماء فلا هي حرة، ولا تصب في المصلحة العليا، بل لعلها تصب في أجندات أخرى لا علاقة لها بخير مستقبلنا وحاضرنا من قريب أو بعيد!

اقرأ/ي أيضًا:

مصر.. وقائع عبثية لنهايات كارثية

الثورة السورية في البازار الروسي الأمريكي