15-نوفمبر-2015

من مشاهد القتلى في مذبحة رابعة 14/8/2013 (Getty)

في الحادية عشر من مساء الرابع من نيسان/ أبريل الماضي، استيقظ الأطفال على أصوات اقتحام عشرات الجنود المدججين بالسلاح لمسكنهم المتواضع، الكائن في أحد أحياء محافظة الجيزة. استسلم الأب للجنود دون مقاومة، وبعدها بما يقرب من ثلاث ساعات، وفي نفس المسكن، استقر في جسد (هـ.م) -الإرهابي في نظر الدولة والأب والعائل في نظر الأسرة-، خمس رصاصات ميري ليلقى حتفه في التو واللحظة.

تعاني العديد من الأسر، التي فقدت عائليها على يد قوات الأمن المصرية، من ظروف معيشية بالغة الصعوبة

لم يكن (هـ.م) آخر من قتل على يد قوات الأمن بدعوى أنه إرهابي، ولم يكن الأول كذلك. فبحسب إحصائية أجراها "ألترا صوت" عن أعداد الإرهابيين - كما تصفهم الدولة- المقتولين على يد قوات الأمن، من واقع البيانات الرسمية الصادرة عن المتحدث العسكري للقوات المسلحة ووزارة الداخلية، خلال الفترة من الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر 2014 إلى الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر 2015، بلغ ألفًا وثمانمائة وثلاثة وثلاثين شخصًا تقريبًا، أغلبهم قضوا نحبهم في محافظة شمال سيناء.

يثير هذا الرقم العديد من التساؤلات، ليس بشأن حقيقة حمل هؤلاء الأشخاص للسلاح ضد الدولة أو قيامهم بأعمال تخريبية ضد منشآتها ورعاياها فقط، أو حول ملابسات الاشتباكات التي تقول الأجهزة الأمنية إنهم قضوا نحبهم خلالها فيما تؤكد بعض أسرهم أنهم تم تصفيتهم عمدًا دون وجه حق، ولكن يثير تساؤلات أخرى عن أحوال عشرات الأسر التي فقدت أبناءها وعائليها في مثل هذه الأحداث التي يمكن وصفها بالملتبسة. "ألترا صوت" التقى بعض هذه الأسر للوقوف على أوضاعها ومعاناتها.

إكرام الميت ليس دفنه

"سبعة أيام. عذبونا سبعة أيام، حتى نحصل على جثمان شقيقي لندفنه"، بهذه الكلمات يروي شقيق (هـ.م) - الذي رفض ذكر اسمه - رحلة الأسرة للحصول على تصريح بدفن الجثمان. وأضاف لـ"ألترا صوت": "قضينا هذه الأيام بين النيابة التي تؤكد أنها أصدرت تصريح بدفن الجثمان في نفس اليوم الذي قتل فيه وأرسلته إلى الشرطة، وبين ضباط الأمن الوطني الذين رفضوا إعطاءنا تصريح الدفن في البداية وأكدوا أن التصريح لن يصدر قبل خمسة عشر يومًا، ثم ادَّعوا أنه تم إرسال التصريح إلى المشرحة التي تؤكد أنها لم تستلمه، وفي النهاية استلمنا الجثمان بعد سبعة أيام".

لم يقف الأمر عند هذا الحد بل كانت صلاة الجنازة وتشييع الجثمان تحت أعين الجهات الأمنية، التي رفضت أن يصلى على "ه.م" في أي مسجد كبير في القاهرة أو الجيزة، وأصرت أن يصلى عليه في مسجد صغير في وسط المقابر، وأن يكون عدد المشاركين في الصلاة وتشييع الجثمان "محدودًا للغاية"، وهو ما تم، إذ شارك ما يقرب من عشرة أشخاص فقط في صلاة الجنازة ودفن الجثمان.

أسرة (م.ع) الذي قتل في أواخر نيسان/ أبريل من العام الجاري، في اشتباك مسلح مع قوات الأمن، في منطقة عين شمس- بحسب الرواية الرسمية-، استطاعت أن تدفن فقيدها بعد ستة أيام من مقتله، وبعد أن مرت تقريبًا بنفس المصاعب التي واجهتها أسرة (هـ.م).

اقرأ/ي أيضًا: حسام بهجت..التهمة: صحفي 

الحرمان من شهادات الوفاة

"نتنقل بين ضباط الأمن الوطني والنيابة للحصول على شهادة الوفاة، أوكلنا محاميًا منذ شهور ولم يستطع الإتيان بها" هكذا تؤكد أسرة (ع.ع)، الذي قتل في أواخر العام الماضي، في كمين للشرطة واتهم بالانتماء إلى تنظيم "أنصار بيت المقدس" فيما بعد، أنها تسعى للحصول على شهادة وفاته منذ أحد عشر شهرًا دون الوصول إليها. الحال نفسه ينطبق على أسرة "ه.م" التي تسعى للحصول على شهادة وفاته منذ حوالي ثمانية أشهر.

"بدون شهادة الوفاة لا نستطيع عمل إعلان وراثة، ولا نستطيع الحصول على معاش ضمان اجتماعي للأطفال الذين لا يوجد لهم أي مصدر دخل، ولا نستطيع إدخال الأطفال المدارس التي تطلب توقيع ولي الأمر المتوفى والذي لا نستطيع إثبات أنه متوفى دون الشهادة"، هكذا لخص شقيق (هـ.م) سبب حاجتهم الملحة إلى شهادة وفاة شقيقه، ويضيف أنهم لا يحصلون سوى على وعود كاذبة من "الضابط المسؤول عنهم" بالحصول عليها قريبًا.

مدير الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان المحامي جمال عيد أكد لـ"ألترا صوت" أنه "لا يجوز بأي حال من الأحوال حرمان أيَّة أسرة من شهادة وفاة أي من أفرادها، وأن من حق الأسرة أن تتسلم شهادة الوفاة بمجرد طلبها"، وأضاف عيد أنه "حتى إذا كان المقتول متهم بالإرهاب فلا يجوز قانونًا حرمان أسرته من شهادة وفاته طالما وقعت الوفاة".

ظروف معيشية صعبة

تعاني العديد من الأسر، التي فقدت عائليها على يد قوات الأمن، من ظروف معيشية بالغة الصعوبة، إذ تشكو أسرة (هـ.م)، ذات العدد الكبير، من اضطرارها إلى العيش على المساعدات التي يقدمها بعض أقربائها، والتي تكفي بالكاد لسد حاجاتها الأساسية. مصدر في الأسرة يقول "لا ندري كيف سنعيش ومن أين سنصرف في المستقبل، ليس لنا أي مصدر دخل، ولا نستطيع الحصول على معاش ضمان اجتماعي، لا ندري كيف سنفي باحتياجات مدارس الأطفال، (هـ.م) كان عائل الأسرة ومصدر دخلها الوحيد".

أما زوجة (م.ع) فتضطر للعمل لسد حاجة طفليها، اللذين لم يبلغ أكبرهما العاشرة بعد، إذ لم تجد الأسرة من يمد يد العون لها حتى من الأهل. حسبما ذكر مصدر مقرّب من الأسرة لـ"ألترا صوت".

الوضع يبدو أفضل بالنسبة لأسرة القيادي الإخواني ناصر الحافي، الذي قتل على يد قوات الأمن مع ثمانية من أعضاء الجماعة في مطلع تموز/ يوليو الماضي، إذ يقول نجله أحمد: "بالطبع تأثرت ظروف الأسرة المعيشية بوفاة والدي، لكن عملي الخاص وفر للأسرة مصدر دخل جيد، ليس كما كان والدي حي يرزق ولكن الحمد لله عل كل حال".

مضايقات أمنية

"اعتقلت لمدة خمسة وأربعين يومًا بعد وفاة والدي. القضية ملفقة. أجهزة الأمن لفقت لي القضية بسبب ظهوري المتكرر في وسائل الإعلام للحديث عن قضية والدي". هكذا صرح لـ"ألترا صوت" أسامة نجل القيادي الإخواني جمال خليفة، الذي قتل على يد قوات الأمن في مطلع تموز/ يوليو الماضي، عند سؤاله عن تعرض الأسرة لمضايقات أمنية بعد مقتل والده.

أما أحمد نجل القيادي الإخواني ناصر الحافي فيقول إنَّ رسوب أخيه محمد، الطالب في الفرقة الثالثة بكلية الحقوق بجامعة عين شمس، تم بإيعاز أمني، وكذلك الأمر مع نجلي عمه اللذين رسبا أيضًا.

أسرة (هـ.م) تعرضت لنوع آخر من المضايقات الأمنية، إذ ظلت تحت المراقبة المشددة لما يقرب من شهرين بعد مقتل عائلها. "لم نكن نستطيع الخروج من المنزل إلا بعد استئذان الضابط المسؤول عنا" هكذا تحدث مصدر في الأسرة.

وأظهر عدد من الأسر- التي تحدث "ألترا صوت" معها - تخوفها من تأثير تهمة الإرهاب، التي ألصقت بذويها المقتولين، على مستقبل أطفالها أو أقربائها، وما قد ينتج عن هذا من حرمانهم من الالتحاق بوظائف أو كليات معينة، أو حرمانهم من حقوقهم كمواطنين لم يرتكبوا أي ذنب.

كيف ينظر المجتمع إلى هذه الأسر؟

"كل الناس تعرف والدي، وجميعهم تأثروا بمقتله، ويمكن القول أن جميعهم متعاطفون معانا" هكذا رأى أحمد الحافي تعامل المجتمع المحلي مع أسرته. الحال يختلف قليلًا مع أسرة الدكتور جمال خليفة، إذ يقول مصدر من الأسرة: "هناك فئة قليلة من المجتمع تتخوف من التواصل معنا- خوفًا من النظام وليس كرهًا للأسرة-، لكن أغلب المجتمع يتعامل معنا بشكل طبيعي ويتعاطف مع الأسرة لأن الدكتور جمال كان معروفًا بسيرته الطيبة في محافظته المنوفية".

لاحظ "ألترا صوت"، أن الأسر- محل التحقيق- التي لم تغير محل سكنها منذ فترة طويلة يميل التعامل المجتمعي معها إلى التعاطف، فأسرة الحافي، التي تؤكد وجود تعاطف معها من محيطها المجتمعي، تقيم في قرية في شبرا الخيمة منذ سنين طويلة، كذلك أسرة خليفة تقيم في نفس محل سكنها منذ العام 2003. الوضع يختلف مع الأسر التي لا تقيم في محل ثابت فترات طويلة، فأسرتا (هـ.م) و(ع.ع) فضلتا الانتقال من محلي سكنهما إلى أماكن جديدة، بعيدًا عن أعين المجتمع الذي علم بما حدث لهما، والذي أظهر تخوفًا من التواصل مع أفرادهما.

العنف المحتمل تجاه الدولة والمجتمع

"أصبحت أفرح عندما أسمع عن مقتل أحد عناصر قوات الأمن بعدما قتلوا والدي"، "الشرطة قتلت أبي، وأنا أخاف منهم كثيرًا"، "الدولة تعني العدل والالتزام بالقانون، ووالدي قتل دون دليل يؤيد رواية قوات الأمن عن مقتله. أنا أرى أنه لا يوجد دولة"، "أرى أن النظام ظالم، ولابد من زواله". جاءت هذه الإجابات - التي حصل عليها "ألترا صوت" من ذوي المقتولين على يد قوات الأمن - ردًا على سؤال؛ كيف ينظر أفراد هذه الأسر إلى الدولة والأجهزة الأمنية؟

طرحت هذه الإجابات تساؤلات عن الحالة النفسية التي تعيشها هذه الأسر، وعن إمكانية قيام بعض أفراد هذه الأسر بانتهاج العنف ضد الدولة والمجتمع. "ألترا صوت" استعان بالطبيبة النفسية بسمة عبدالعزيز للإجابة عن هذه التساؤلات.

في البداية، فرقت دكتور بسمة بين الحالة النفسية للأطفال الذين تعرضوا للعنف أو الظلم، والحالة النفسية للناضجين الذين مروا بنفس التجارب. وأكدت عبد العزيز أن مثل هذه الحالات تكون في حاجة ماسة إلى علاج نفسي مكثف.

وعن الحالة النفسية للأطفال تقول دكتور بسمة إنَّه "لا يمكن اعتبار هؤلاء الأطفال إرهابيين محتملين، ولكن يمكن القول أن التجارب القاسية التي مروا بها تجعلهم غير طبيعيين وقد يميلون إلى العنف". وأضافت عبدالعزيز أن "كل طفل له تجربته المختلفة، والتي قد تدفعه إلى العنف، ولكن الدولة والمجتمع عليهما دور كبير في المساهمة في التئام الجروح النفسية التي تعاني منها مثل هذه الحالات".

وكشفت دكتور بسمة عن وجود بعض الأطباء النفسيين غير المهنيين الذين يرفضون علاج مثل هذه الحالات، وأكدت أن مثل هذه الأفعال تؤدي إلى إعاقة بل ووقف الجهود التي قد تبذل لعلاج هذه الحالات في المستقبل.

ورأت دكتور بسمة عبدالعزيز أنَّ الأشخاص الناضجين أكثر قدرة على استيعاب الأحداث وتكوين وجهات نظر تجاهها- على عكس الأطفال-، وقد يكون هؤلاء الناضجون مؤدلجين ولهم رؤيتهم الخاصة للدولة والمجتمع، وهذه الرؤية بجانب ما مروا به من تجارب خاصة قد تدفعهم إلى العنف، ولكن كل فرد وليد تجربته.

اقرأ/ي أيضًا: موسم ترويع الإعلام في مصر